اقتصادمحلية

المال الغارق والجرذان الحاكمة


في حياة الشعوب لحظات تختلط فيها المأساة بالسخرية، وتتشابك الحقيقة بالأسطورة

لحظات تدفع الإنسان إلى التساؤل عن حدود المعقول، وحجم العبث الذي يمكن أن يتحمله مجتمع بأكمله. والعراق، ذلك البلد الذي كان يوماً مهدا للحضارات يجد نفسه اليوم أمام رواية أشبه بالخيال أموال عامة اختفت فجأة، فقيل إنها غرقت وقيل مرة أخرى إن الجرذان أكلتها.
لم يكن هذا مجرد تصريح عابر في مؤتمر صحفي بل كان مشهداً متكاملاً يصلح أن يُدرج في “مقامات الحريري” أو حكايات ألف ليلة وليلة حيث يغوص المال في النهر كما غاصت سفن التجارة في عصور الانحطاط، وتخرج الجرذان على الناس لتعلن أنها أصبحت شريكاً في ميزانية الدولة.

وفي قراءة دقيقة للتاريخ، نجد أن هذا ليس جديداً على العراق.
فقد شهدت البلاد في العصور العثمانية اختفاء الأموال أو سوء إدارتها، وكان بيت المال مرآة للعدل أو الظلم، يعكس ما يعتمل في السلطة من نزاهة أو فساد.
إلا أن الفرق اليوم أن اللغة الرسمية التي استخدمها المسؤولون لتحليل الأزمة لم تعد لغة الأرقام، بل لغة الحكاية، لغة تجعل المواطن يبتسم بمرارة، ويقف عاجزاً أمام نظام لا يعترف بالمساءلة، ويغذي السخرية الشعبية بدل التحقيق والشفافية.

قد يقال إن المال يمكن تعويضه، وأن الدولة يمكن أن تملأ خزائنها لاحقاً.
هذا صحيح فالثروة قابلة للإنتاج والتعويض، لكن الثقة حين تتكسر لا يمكن إعادتها بسهولة. المواطن العراقي حين يسمع أن الجرذان أكلت المليارات، لا يضحك فقط، بل يختزن داخله قناعة أن هناك من يستهين بعقله، وأن الدولة نفسها باتت تمارس العبث على الملأ. والابتسامة التي يطلقها على المقاهي ليست ابتسامة مرح، بل ابتسامة مرة، يدرك من خلالها أنه مجرد متفرج في مسرحية عبثية طويلة، وأن المسرح نفسه لا يدير شؤون المواطنين، بل يعرض عليهم الحكايات ليبقوا مشغولين بالضحك بدلاً من السؤال.

إن السخرية، بطبيعتها، تكشف جانب الحقيقة. ومن هذا المنطلق، فإن القصة ليست مجرد نكتة شعبية، بل مؤشر على أزمة أعمق: أزمة النظام الذي يسمح بأن تُحكى مأساة وطن بأسلوب يُضحك الناس، بينما يغيب المسؤول عن المحاسبة. وفي هذا السياق، يصبح السؤال عن المال المفقود أقل أهمية من السؤال عن المنظومة التي سمحت لهذا الفقدان، وعن العقل الجمعي الذي صمت طويلاً أمام هذه التبريرات الغريبة

وعلى المستوى العربي الأوسع، ما جرى في العراق ليس حالة فريدة، بل جزء من نمط يمكن ملاحظته في دول أخرى حين تضيع الأموال تخرج التبريرات لتخفي المسؤولية. في أماكن أخرى يقال إن الأموال “تعثرت” أو “أسيء استثمارها”، أما هنا فقد اختصروا الطريق بعبارة قصيرة: غرق… أُكِل. إنه مأساة تلبس قناع الكوميديا السوداء، حيث الضحك مشوب بالدموع وحيث المواطن يدرك أن الحكاية ليست عن المال بل عن نظام يسمح بسلب حقه في المعرفة والمحاسبة.

وإذا أعدنا النظر إلى التاريخ، نجد أن العراق عرف هذه الحوادث من قبل وإن اختلفت أساليبها.وفي العصور القديمة، كان بيت المال يُدار بعناية، لكن في لحظات ضعف الدولة كان يُنهب ويُسحب منه ما يشاء الحاكم أو الوالي. وفي العهد العثماني، كانت الضرائب تجمع وتُستغل أحياناً في قصور الولاة البعيدين عن العاصمة، أما المواطن فكان يدفع الثمن. الفرق اليوم أن الوسائل تتطور، لكن العبث يبقى، والمال يختفي، والسخرية تبقى وحدها صافية، مرآة للواقع المواطن يضحك ودموعه تتسرب إلى قلبه.

إن أخطر ما في قصة “الأموال الغارقة” و”الجرذان الأكولة” ليس المال ذاته، ولا حتى التصريحات الرسمية التي فشلت في إقناع أحد بل غياب المساءلة والشفافيةوهو ما يجعل المواطن يدرك أن الفساد لا يختفي، بل يتنقل، ويتخفي في ألف حكاية وتبرير. وما يزيد الطين بلة أن الذاكرة العراقية وهي ذاكرة عميقة، تتذكر الأمجاد والانكسارات لن تنسى هذه الحكاية بسهولة.
سيظل الناس يتداولونها جيلاً بعد جيل، ليس فقط كحكاية عن الأموال المفقودة، بل كرمز لفترة كاملة من العبث السياسي والإداري.

ويبقى السؤال الأخير الذي يفرض نفسه إذا كان المال قد غرق، فمن الذي قاده إلى النهر؟ وإذا كانت الجرذان قد أكلته، فمن الذي فتح لها الباب إلى الخزائن؟ وما الذي ينتظر شعباً يُخاطب بهذه اللغة في زمن تُقاس فيه الأمم بالأرقام والشفافية؟ وهل من الممكن أن تتغير المنظومة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى